بعد تفجّر التظاهرات الشعبيّة في لبنان خلال الأسابيع القليلة الماضية، أطلق بعض الناشطين من "الحراك الشعبي" شعاراً باللغّة العامية يُشدّد على تورّط كامل الطبقة السياسيّة في لبنان بالفساد السياسي، ويقول "كِلّن يَعني كِلّن". فتأمّل بعض اللبنانيّين خَيراً من هذا "الحراك" لأنّه لا يستثني أيّ جهة سياسيّة بالنسبة إلى المسؤولية عمّا آلت إليه الأوضاع في لبنان، أكانت هذه المسؤوليّة جزئيّة أو كاملة، مباشرة عبر الإشتراك في الصفقات أو غير مباشرة عبر السكوت عنها. لكنّ تطوّرات الأيّام الأخيرة أعادت الكثير من المُتفائلين إلى خيباتهم السابقة، بالنسبة إلى عدم تأمّل الكثير من "الحراك الشعبي". فما هي الأسباب؟

أوّلاً: إنّ دخول أكثر من فريق سياسي على خط التظاهرات بشكل مخفي ومُبطّن، والسعي الحثيث إلى تسييس التحرّك عبر رفع مطالب تدعم هذا الفريق أو ذاك، أفقد التحرّك "الحياديّة" التي كان يتغنّى بها، فالمُطالبة بإنتخاب رئيس فوراً يعني الإلتقاء مع مطلب قوى "14 آذار" بينما المُطالبة بإجراء إنتخابات نيابيّة جديدة فوراً يعني الإلتقاء مع مطلب "التيار الوطني الحُرّ" والكثير من شخصيّات فريق "​8 آذار​". وأمثلة المطالب المُنحازة إلى هذا الفريق أو ذاك كثيرة، تبعاً لتباين مجموعات ​الحراك المدني​ وإنتماءاتها المخفيّة. كما أنّ هفوات بعض رموز التحرّكات الشعبيّة الشخصيّة، وتورّطهم في سقطات لا تحترم رأي الآخرين وتُهاجم عقائدهم وتسخر من مُعتقداتهم الدينيّة تحت ستار حرّية التعبير، زادت الطيّن بلّة.

ثانياً: إنّ الضغوط التي تعرّض لها بعض رموز "الحراك الشعبي"، ومحاولات تبنّي بعض الجهات السياسيّة مطالب رموز أخرى فيه، جعلت الشعار النظري "كلّن يعني كلّن" على مستوى الفساد السياسي في لبنان، يتحوّل عملياً إلى شعار "كِلّن يَعني مِش كِلّن". والإستثناءات التي دخلت على الخطّ، واكبتها الأحزاب والتيّارات السياسيّة نفسها والتي سارعت بأغلبيّتها إلى حمل لواء مُحاربة الفساد، وصار مُناصروها يحيّدون هذا الحزب أو ذاك، وهذا التيار أو ذاك، حتى أثناء مُشاركتهم بالتظاهر ضُدّ فساد الطبقة السياسيّة.

ثالثاً: إنّ الأحزاب السياسيّة بدأت بالردّ ميدانيّاً على تهم الفساد التي لحقت بها من هنا أو هناك، عبر تنظيم تجمّعات حاشدة لمناصريها، فكان حشد "حركة أمل" في النبطية، وتلاه حشد "التيّار الوطني الحُر" في ساحة الشهداء، والحبل على الجرّار، بالتزامن مع تصاريح لمناصري مختلف الأحزاب والتيّارات السياسيّة في لبنان، التي تتهم الطبقة السياسيّة بالفساد باستثناء الحزب أو التيّار الذي تنتمي إليه أو تُؤيّده. فمثلاً إنّ مُناصري "حزب الله" يَعتبرونه أرقى من ملفّات الفساد، بينما يتّهمه خصومه بتهريب البضائع عبر ممرّات خاصة من دون دفع أيّ ضرائب أو رسوم جمركيّة، وبتورّط أشقاء وأقارب نوّاب وقياديّين فيه بعمليّات تهريب وتزوير، من حبوب الكبتاغون إلى الأدوية المغشوشة. وأنصار "التيّار الوطني الحُرّ" يعتبرونه حامل لواء مُحاربة الفساد و"الإصلاح والتغيير" منذ سنوات طويلة، وأنّه يتقّدم في هذا المجال على المُتظاهرين الذين نزلوا إلى الشوارع بالأمس القريب بأشواط كبيرة، بينما خُصومه يتهمونه بإبعاد الشخصيّة الوحيدة التي أوصلها إلى الحكم وحاربت الفساد فعلياً وهي الوزير السابق شربل نحّاس، ويُركّزون في تهم الفساد على رئيسه الجديد المُنتخب بالتزكية الوزير جبران باسيل، بحجّة تبخّر كل الأموال التي صُرفت في عهده لإصلاح وصيانة قطاع الكهرباء من دون أيّ نتيجة تُذكر. وأنصار "تيار المُستقبل" يعتبرون التهم بضياع مليارات عدّة من دون أيّ مُستندات رسمية لوجهة صرفها، مُجرّد حملات سياسيّة - إعلاميّة للنيل من رموزه السابقين والحاليّين. ومحاولات النأي بالنفس عن الفساد، ومُواكبة مطالب المُنتفضين، شملت العديد من الأحزاب والتيّارات الأخرى، إمّا عبر إعتماد مبدأ الصمت أو عبر محاولات مُواكبة مطالب المُتظاهرين.

رابعاً: إنّ الإنقسامات بين المجموعات المُتعدّدة التي تُشكّل "الحراك المدني والشعبي" بدأت تطفو على السطح، خاصة على مستوى مُحاولات قيادة وجهة التحرّكات وتحديد الشعارات الواجب رفعها، الأمر الذي أضعف الزخم الأوّل لإنطلاق الغضب الشعبي. كما أنّ الدخول عنوة إلى وزارة البيئة جعل الكثير من المُؤيّدين السابقين يرفضون هذا النوع من الشغب الذي إن نجح، سيعني تلقائياً إنهيار سُلطة الدولة والقانون، وفلتان الشارع على مصراعيه. ومن بين التأثيرات السلبيّة على التظاهرات، دخول مجموعات الشغب التي تُحرّكها أجهزة إستخبارات أجنبيّة وأحزاب سياسيّة لبنانيّة على خطّ الحراك الشعبي.

في الخلاصة، "الحراك الشعبي" لن يتوقّف، بل سيستمرّ ويشتدّ، لأنّه يجمع إلى جانب المُنتفضين المُحقّين على فساد السلطة السياسيّة، وعلى فشل السلطات الرسميّة المُتعاقبة في الوصول إلى دولة حضارية، جهات سياسيّة وإستخباريّة عدّة تُحاول توظيف التظاهرات لتوجيه رسائل ضغط في غير إتجاه عبر الشارع اللبناني. وفي الوقت عينه، الطبقة السياسيّة المُتضرّرة تعمل كلّها على تأييد المُتظاهرين ظاهرياً، وعلى ضربهم وإضعافهم عمليّاً. وفي كل الأحوال، ستثبت الأيّام المقبلة أنّ الإنتماء المذهبي والحزبي لكثير من اللبنانيّين يتقدّم على خيبتهم من فشل السلطة السياسيّة وغضبهم على حقوقهم غير المُؤمّنة. وإذا كان عشرات الآلاف يتحرّكون في الشارع ضد الطبقة الحاكمة حالياً، فإنّ كل جهة من هذه الأخيرة قادرة على تحريك عشرات الآلاف في الشوارع، كما ظهر في أكثر من مثل أخيراً. وبمجرّد أن يتحدّث اللبناني، أيّ لبناني، عن "كلّن يعني مِش كِلّن" عندما يتناول موضوع إنتشار الفساد، فهذا يعني أنّ الطبقة السياسية التي تحكمه حالياً، ستبقى هي الحاكمة لفترة طويلة، مُستفيدة من إستثناءاته المُتناقضة والمُتضاربة، ومن تعصّبه المذهبي والحزبي.